فصل: قال الجاوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{إِذَا جَاء نَصْرُ الله}
أيْ إعانتُهُ تعالى وإظهارُهُ إياكَ على عدوكَ {والفتح} أيْ فتحُ مكةَ وقيلَ: جنسُ نصرِ الله تعالى ومطلقُ الفتحِ فإنَّ فتحَ مكةَ لمَّا كانَ مِفْتاحَ الفتوحِ ومناطَهَا كمَا أنَّ نفسَها أمُّ القُرَى وأمامها جُعلَ مجيئُهُ بمنزلةِ مجيءِ سائرِ الفتوحِ وعلقَ بهِ أمرَهُ عليهِ السلام بالتسبيحِ والحمدِ والتعبيرُ عنْ حصولِ النصرِ والفتحِ بالمجيءِ للإيذانِ بأنهُمَا متوجهانِ نحوَهُ عليهِ السلام وأنهُمَا على جناحِ الوصولِ إليهِ عليهِ السلام عن قريبٍ.
روي أنها نزلتْ قبلَ الفتحِ وعليهِ الأكثرُ.
وقيل: في أيامِ التشريقِ بمِنًى في حجةِ الوداعِ، فكلمةُ إذَا حينئذٍ باعتبارِ أنَّ بعضَ مَا في حيزِهَا أَعْنِي رؤيةَ دخولِ الناسِ الخ، غيرُ منقضٍ بعدُ وكانَ فتحُ مكةَ لعشرٍ مضينَ من شهرِ رمضانَ سنة ثمانٍ ومعَ النبيِّ عليهِ الصلاةُ والسلام عشرةُ آلافٍ منَ المهاجرينَ والأنصارِ وطوائفِ العربِ وأقامَ بهَا خمس عشرَةَ ليلةً وحينَ دخلَها وقفَ على بابِ الكعبةِ ثمَّ قال: «لاَ إله إلا الله وَحْدَهُ لاَ شريكَ لَهُ صدقَ وعدَهُ ونصرَ عبدَهُ وهزمَ الأحزابَ وحدَهُ». ثمَّ قال: «يا أهلَ مكةَ ما ترونَ أني فاعلٌ بكُم؟» قالوا: خيرًا أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريمٍ، قال: «اذهبُوا فأنتُمْ الطلقاءُ» فأعتقهُمْ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقدْ كانَ الله تعالى أمكنَهُ من رقابِهم عنوةً وكانُوا له فياءً ولذلكَ سميَ أهلُ مكةَ الطلقاءَ ثمَّ بايعُوه على الإسلام ثمَّ خرجَ إلى هوازنَ {وَرَأَيْتَ الناس} أيْ أبصرتهُمْ أو علمتهُمْ {يَدْخُلُونَ في دِينِ الله} أيْ ملةُ الإسلامِ التي لا دينَ يضافُ إليهِ تعالى غيرُهَا والجملةُ على الأولِ حالٌ من الناسِ وعلى الثاني مفعولٌ ثانٍ لرأيتَ وقوله تعالى: {أَفْوَاجًا} حالٌ من فاعلِ يدخلونَ أيْ يدخلونَ فيهِ جماعاتٍ كثيفةً كأهلِ مكةَ والطائفِ واليمنِ وهوازنَ وسائرِ قبائلِ العربِ وكانُوا قبلَ ذلكَ يدخلونَ فيهِ واحدًا واحدًا واثنينِ اثنينِ.
روي أنَّه عليهِ السلام لما فتحَ مكةَ أقبلتِ العربُ بعضُها على بعضٍ فقالوا: إذَا ظفِرَ بأهلِ الحرمِ فلنْ يقاومَهُ أحد وقدْ كانَ الله تعالى أجارَهُم من أصحابِ الفيلِ ومن كُلِّ من أرادهُم فكانُوا يدخلونَ في دينِ الإسلامِ أفواجًا من غيرِ قتالٍ وقرئ فتحُ الله والنصرُ وقرئ يُدخلونَ على البناءِ للمفعولِ.
{فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ} فقُلْ: سبحانَ الله حامدًا لهُ أو فتعجبَ لتيسيرِ الله تعالى ما لَمْ يخطُرْ ببالِ أحد من أنْ يغلبَ أحد على أهْلِ حرمِهِ المحترمِ واحمدْهُ على جميلِ صُنعِه، هذا على الروايةِ الأُولى ظاهرٌ وأمَّا على الثانيةِ فلعلَّهُ عليهِ السلام أُمرَ بأنْ يداومَ على ذلكَ استعظامًا لنعمِه لاِ بأحداثِ التعجبِ لما ذُكرَ فإنَّهُ إنما يناسبُ حالةَ الفتحِ أو فاذكُرْهُ مسبحًا حامدًا زيادةً في عبادتِهِ والثناءِ عليهِ لزيادةِ إنعامِه عليكَ أو فصلِّ لهُ حامدًا على نعمِه.
روي أنَّه لما فتحَ بابَ الكعبةِ صلَّى صلاة الضحى ثمانِ ركعاتٍ. أو فنزههُ عما يقوله الظلمةُ حامدًا لهُ على أنْ صدقَ وعدَهُ أو فاثنِ على الله تعالى بصفاتِ الجلالِ حَامِدًا له على صفاتِ الإكرامِ {واستغفره} هَضْمًا لنفسكَ واستقصارًا لعملكَ واستعظامًا لحقوقِ الله تعالى واستدراكًا لما فرطَ منكَ من تركِ الأولَى. عن عائشةَ رضيَ الله عنهَا أنه كانَ عليهِ الصلاةُ والسلام يكثرُ قبلَ موتِه أنْ يقول: «سُبْحانكَ اللهمَّ وبحمدكَ استغفركَ وأتوبُ إليكَ» وعنهُ عليه السلام: «إنِّي لأستغفرُ في اليومِ والليلةِ مائةَ مرةٍ» ورُويَ أنَّه لمَّا قرأها النبيُّ عليهِ الصلاةُ والسلام على أصحابِه استبشرُوا وبكَى العباسُ فقال عليه السلام: «ما يبكيكَ يا عمُّ؟» فقال: نعيتْ إليكَ نفسُكَ، قال عليه السلام: «إنَّها لكمَا تقول» فلَمْ يُرَ عليهِ السلام بعدَ ذلكَ ضاحكًا مستبشرًا وقيلَ: إنَّ ابنَ عباسٍ هُو الذي قال ذلكَ فقال عليه السلام: «لقدْ أُوتي هذا الغلامُ علمًا كثيرًا» أو لعلَّ ذلكَ للدلالةِ على تمامِ أمرِ الدعوةِ وتكاملِ أمرِ الدينِ كقوله تعالى: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} ورُويَ أنَّها لمَّا نزلتْ خطبَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنَّ عبدًا خيرهُ الله تعالى بينَ الدُّنيا وبينَ لقائِه فاختارَ لقاءَ الله تعالى. فعلَم أبو بكرٍ رضيَ الله عنه فقال: فديناكَ بأنفسِنا وآبائِنا وأولادِنا».
وعنهُ عليهِ السلام أنهُ دعَا فاطمةَ رضيَ الله عنْهَا فقال: «يا بنتاهُ إنَّه نعيتْ إلى نفسِي» فبكتْ فقال: «لا تبكِي فإنكِ أولُ أَهْلي لحوقًا بِي» وعنِ ابنِ مسعودٍ رضيَ الله عنْهُ أنَّ هذه السورةَ تُسمَّى سورةَ التوديعِ، وقيلَ: هو أمرٌ بالاستغفارِ لأمتِه {إِنَّهُ كَانَ تَوبَا} منذُ خلقَ المكلفينَ أيْ مبالغًا في قبولِ توبتِهم فليكُنْ كُلُّ تائبٍ مستغفرٍ متوقعًا للقبولِ. اهـ.

.قال الجاوي:

سورة النصر:
وتسمى سورة التوديع لما فيها من الدلالة على توديع الدنيا.
وهي آخر سورة نزلت- قاله ابن عباس-.
مدنية.
هي ثلاث آيات.
وثلاث عشرون كلمة.
تسعة وسبعون حرفا.
{إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ} إن كان نزول هذه السورة قبل فتح مكة، ف (إذا) ظرف مستقبل جوابه فسبح، فإن كان النزول بعد الفتح ف (إذا) بمعنى إذ التي للماضي، فهي على هذا متعلقة بمقدر، أي أكمل اللّه الأمر وأتم النعمة إذ حصل إعانة اللّه تعالى على عدوك، {وَالْفَتْحُ} (1) أي فتح مكة، وهو الفتح الذي يقال له: فتح الفتوح، وكان لعشر مضين من شهر رمضان سنة ثمان.
فقد خرج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من المدينة ومعه عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار، وطوائف العرب إلى أن نزل بمر الظهران، وقدم العباس وأبو سفيان إليه، فاستأذنا، فأذن لعمه خاصة، فقال أبو سفيان: إما أن تأذن لي، وإلا أذهب بولدي إلى المفازة، فنموت جوعا وعطشا، فرق قلبه، فأذن له وقال له: «ألم يأن أن تسلم وتوحد؟» فقال: أظن أنه وأحد ولو كان هاهنا غير اللّه لنصرنا، فقال: «ألم يأن أن تعرف أني رسوله؟» فقال: إن لي شكا في ذلك، فقال العباس: أسلم قبل أن يقتلك عمر فقال: وماذا أصنع بالعزى؟ فقال عمر: لولا أنك بين يدي رسول اللّه لضربت عنقك، فقال: يا محمد، أليس الأولى أن تترك هؤلاء الأوباش، وتصالح قومك وعشيرتك، فسكان مكة عشيرتك وأقاربك وتعرضهم للشن والغارة، فقال صلى الله عليه وسلم: «هؤلاء نصروني وأعانوني وذبوا عن حريمي، وأهل مكة أخرجوني وظلموني فإن هم أسروا فبسوء صنيعهم». وأمر العباس بأن يذهب به ويوقفه على المرصاد ليطالع العسكر، ثم تقدم أبو سفيان ودخل مكة وقال: إن محمدا جاء بعسكر لا يطيقه أحد ولما سمع أبو سفيان أذان القوم للفجر وكانوا عشرة آلاف فزع من ذلك فزعا شديدا، وسأل العباس، فأخبره بأمر الصلاة، ودخل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مكة على راحلته ولحيته على قربوس سرجه، كالساجد تواضعا وشكرا، ثم التمس أبو سفيان الأمان فقال: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن». فقال: ومن تسع داري فقال: «ومن دخل المسجد فهو آمن» فقال: ومن يسع المسجد فقال: «من ألقى سلاحه فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن»، ثم وقف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على باب المسجد وقال: «لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده» ثم قال: «يا أهل مكة ما ترون أني فاعل بكم»، فقالوا: خيرا، أخ كريم، وابن أخ كريم فقال: «اذهبوا، فأنتم الطلقاء»، فأعتقهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقد كان اللّه تعالى أمكنه من رقابهم عنوة، وكانوا له فيئا، فلذلك سمي أهل مكة الطلقاء، ثم بايعوه على الإسلام، وأقام صلى الله عليه وسلم في مكة خمس عشرة ليلة، ثم خرج إلى هوازن.
وقرئ {فتح اللّه والنصر وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجًا}، أي وأبصرت الناس يدخلون في ملة الإسلام جماعات كثيفة كأهل مكة، والطائف، واليمن، وهوازن، وسائر قبائل العرب، وكانوا قبل ذلك فيه واحدًا واحدًا، واثنين اثنين..
وقرئ {يدخلون} على البناء للمفعول {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} أي فقل سبحان اللّه حامدا له، {وَاسْتَغْفِرْهُ} أي واطلب غفرانه هضما لنفسك واستقصارا لعملك، واستعظاما، لحقوق اللّه، واستدراكا لما فرط منك من ترك الأولى، وكأنه تعالى يقول: إذا جاء نصر اللّه إياك والمؤمنين، والفتح، ودخول الناس في دينك فاشتغل أنت بالتسبيح والحمد والاستغفار {إِنَّهُ كانَ تَوَّابًا} (3) أي إنه تعالى يكثر قبول التوبة لكثير من التائبين، والتوبة اسم للرجوع والندم، والإنسان قد يقول: أستغفر اللّه وليس بتائب، فيكون كاذبا وكان تقدير الكلام: واستغفره بالتوبة، وفي هذا تنبيه على أن خواتيم الأعمال يجب أن تكون بالتوبة والاستغفار، وكذا خواتيم الأعمار.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم لم يجلس مجلسا إلا ختمه بالاستغفار.
وعن عائشة: كان نبي اللّه في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد، ولا يذهب، ولا يجيء إلا قال: «سبحان اللّه وبحمده» فقلت: يا رسول اللّه إنك تكثر من قول سبحان اللّه وبحمده؟ قال: «إني أمرت بها» وقرأ {إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّه} ِ.
وعن ابن مسعود لما نزلت هذه السورة كان صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: «سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي إنك أنت التواب الغفور».
قال مقاتل: لما نزلت هذه السورة قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه، وفيهم أبو بكر وعمر، وسعد بن أبي وقاص والعباس، ففرحوا، واستبشروا، وبكى العباس فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ما يبكيك يا عم» قال: نعيت إليك نفسك، أي أخبرت بموتك قال: «إنه كما قلت»، فعاش بعدها ستين يوما ما رؤي فيها ضاحكا مستبشرا، وعن ابن عمر نزلت هذه السورة بمنى في حجة الوداع، ثم نزل {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3] فعاش النبي صلى الله عليه وسلم بعدها ثمانين يوما، ثم نزلت آية الكلالة، فعاش بعدها خمسين يوما، ثم نزل لقد جاءكم رسول من أنفسكم، فعاش بعدها خمسة وثلاثين يوما، ثم نزل {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 281] فعاش بعدها أحدا وعشرين يوما، وقيل: أحد عشر يوما، وقيل: سبعة أيام واللّه أعلم، وتوفي صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول لاثني عشر خلت منه من هجرته إلى المدينة والهجرة، كانت لاثني عشر خلت من ربيع الأول كما أن مولده كذلك على المشهور. اهـ.

.قال الألوسي:

{إِذَا جَاء نَصْرُ الله}
أي إعانته تعالى وإظهاره إياك على عدوك وهذا معنى النصر المعدي بعلى وفسر به لأنه أوفق بقوله تعالى: {والفتح} وجوز أن يراد به المعدي بمن ومعناه الحفظ والفتح يتضمن النصر بالمعنى الأول فحينئذٍ يكون الكلام مشتملًا على إفادة النصرين والأول هو الظاهر وإذا منصوب بسبح والفاء غير مانعة على ما عليه الجمهور في مثل ذلك وأبو حيان على أنها معمولة للفعل بعدها وليست مضافة إليه وسيأتي إن شاء الله تعالى قول آخر.
والمراد بهذا النصر ما كان في أمر مكة من غلبته عليه الصلاة والسلام على قريش وذكر النقاش عن ابن عباس أن النصر هو صلح الحديبية وكان في آخر سنة ست.
وأما الفتح فقد أخرج جماعة عنه وعن عائشة أن المراد به فتح مكة وروي ذلك عن مجاهد وغيره وصححه الجمهور وكان في السنة الثامنة.
وقال ابن شهاب لثلاث عشرة بقيت من شهر رمضان على رأس ثمان سنين ونصف من الهجرة وخرج عليه الصلاة والسلام على ما أخرجه أحمد بسند صحيح عن أبي سعيد لليلتين خلتا من شهر رمضان وفي رواية أخرى عن أحمد لثمان عشرة وفي أخرى لثنتي عشرة وعند مسلم لست عشرة.
وقال الواقدي خرج صلى الله عليه وسلم يوم الأربعاء لعشر خلون من رمضان بعد العصر وضعفه القسطلاني وكان المسلمون في تلك الغزوة عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وطوائف من العرب.
وفي الإكليل اثني عشر ألفًا وجمع بأن العشرة خرج بها عليه الصلاة والسلام من المدينة ثم تلاحق الألفان والأولى أن يحمل النصر على ما كان مع الفتح المذكور فإن كانت السورة الكريمة نازلة قبل ذلك فالأمر ظاهر وتتضمن الإعلام بذلك قبل كونه وهو من أعلام النبوة وإذا كانت نازلة بعده فقال الماتريدي في التأويلات أن إذا بمعنى إذ التي للماضي ومجيئها بهذا المعنى كثير في القرآن وعليه تكون متعلقة بمقدر ككمل الأمر أو أتم النعمة على العباد أو نحو ذلك لا بسبح لأن الكلام حينئذٍ نحو أضرب زيدًا أمس وقال بعض الأجلة هي لما يستقبل كما هو الأكثر في استعمالها وحينئذٍ لم يكن بد من أن يجعل شيء من ذلك مستقبلًا مترقبًا باعتبار أن فتح مكة كان أم الفتوح والدستور لما يكون من بعده فهو مترقب باعتبار ما يدل عليه وإن كان متحققًا باعتباره في نفسه وجوز أن يكون الاستقبال باعتبار مجموع ما في حيز إذا فمنه ما هو مستقبل وهو ما تضمنه قوله سبحانه: {وَرَأَيْتَ الناس يَدْخُلُونَ في دِينِ الله أفواجا}
ولو باعتبار آخر داخل وهو مما لا بأس به إن لم يكن النزول بعد تمام الدخول وقيل المراد جنس نصر الله تعالى لرسوله عليه الصلاة والسلام والمؤمنين وجنس الفتح فيعم ما كان في أمر مكة زادها الله تعالى شرفًا وغيره وأمر الاستقبال عليه ظاهر وأيًا ما كان فالمراد بالمجيء الحصول وهو حقيقة فيه على ما يقتضيه ظاهر كلام الراغب.
وقال القاضي مجاز والظاهر أن الخطاب في رأيت للنبي عليه الصلاة والسلام والرؤية بصرية أو علمية متعدية لمفعولين والناس العرب ودين الله ملة الإسلام التي لا دين له تعالى يضاف إليه غيرها والأفواج جمع فوج وهو على ما قال الراغب الجماعة المارة المسرعة ويراد به مطلق الجماعة.
قال الحوفي وقياس جمعه أفوج ولكن استثقلت الضمة على الواو فعدل إلى أفواج.
وفي (البحر) قياس فعل صحيح العين أن يجمع على أفعل لا على أفعال ومعتل العين بالعكس فالقياس فيه أفعال كحوض وأحواض وشذ فيه أفعل كثوب وأثوب ونصب {أفواجًا} على الحال من ضمير {يدخلون} وأما جملة {يدخلون} فهي حال من {الناس} على الاحتمال الأول في الرؤية ومفعول ثان على الاحتمال الثاني فيها وكونها حالًا أيضًا بجعل {رأيت} بمعنى عرفت كما قال الزمخشري.
تعقبه أبو حيان بقوله لا نعلم أن رأيت جاءت بمعنى عرفت فيحتاج في ذلك إلى استثبات والمراد بدخول الناس في دينه تعالى أفواجًا أي جماعات كثيرة إسلامهم من غير قتال وقد كان ذلك بين فتح مكة وموته عليه الصلاة والسلام وكانوا قبل الفتح يدخلون فيه واحدًا واحدًا واثنين اثنين.
أخرج البخاري عن عمرو بن سلمة قال لما كان الفتح بادر كل قوم بإسلامهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت الأحياء تتلوم بإسلامها فتح مكة فيقولون دعوه وقومه فإن ظهر عليهم فهو نبي.
وعن الحسن قال لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قالت الأعراب أما إذ ظفر بأهل مكة وقد أجارهم الله تعالى من أصحاب الفيل فليس لكم به يدان فدخلوا في دين الله تعالى أفواجًا وقال أبو عمر بن عبد البر لم يتوف رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي العرب رجل كافر بل دخل الكل في الإسلام بعد حنين والطائف منهم من قدم ومنهم من قدم وافده وتأول ذلك ابن عطية فقال، المراد والله تعالى أعلم، العرب عبدة الأوثان فإن نصارى بني تغلب ما أراهم أسلموا في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن أعطوا الجزية ونص بعضهم على أنهم لم يسلموا إذ ذاك فالمراد بالناس عبدة الأوثان من العرب كأهل مكة والطائف واليمن وهوازن ونحوهم.
وقال عكرمة ومقاتل المراد بالناس أهل اليمن وفد منهم سبعمائة رجل وأسلموا واحتج له بما أخرجه ابن جرير من طريق الحصين بن عيسى عن معمر عن الزهري عن أبي حازم عن أبي عباس قال بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة إذ قال: «الله أكبر الله أكبر جاء نصر الله والفتح وجاء أهلاليمن» قيل يا رسول الله وما أهل اليمن قال: «قوم رقيقة قلوبهم لينة طاعتهم الإيمان يمان والفقه يمان والحكمة يمانية».
وأخرجه أيضًا من طريق عبد الأعلى عن معمر عن عكرمة مرسلًا.
وقوله عليه الصلاة والسلام «الإيمان يمان» جاء في حديث أخرجه البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة مرفوعًا بلفظ «أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة والين قلوبًا الإيمان يمان والحكمة يمانية».
فقيل قال صلى الله عليه وسلم ذلك لأن مكة يمانية ومنها بعث صلى الله عليه وسلم وفشا الإيمان وقيل أراد عليه الصلاة والسلام مدح الأنصار لأنهم يمانون وقد تبوؤا الدار والإيمان وقول ابن عباس في الخبر في المدينة يعارض قول من قال إن ذلك إنما قاله صلى الله عليه وسلم بتبوك وكان بينه وبين اليمن مكة والمدينة وهما دار الإيمان ومظهراه ويحتمل تكرر القول.
والظاهر أنه ثناء على أهل اليمن لإسراعهم إلى الإيمان وقبولهم له بلا سيف ويشمل الأنصار من أهل اليمن وغيرهم فكان الإيمان كان في سنخ قلوبهم فقبلوه كما أنهى إليهم كمن يجد ضالته ومثله في الثناء عليهم قوله عليه الصلاة والسلام: «أجد نفس ربكم من قبل اليمن».
وقال عصام الدين يحتمل أن يكون الخطاب في {رأيت الناس} عامًا لكل مؤمن ثم قال ومما يختلج في القلب أن المناسب بقوله تعالى: {يدخلون في دين الله أفواجًا} أن يحمل قوله سبحانه: {والفتح} على فتح باب الدين عليهم انتهى.
وكلا الأمرين كما ترى.
وقرأ ابن عباس كما أخرج أبو عبيدة وابن المنذر عنه {إذا جاء فتح الله والنصر}.
وقرأ ابن كثير في رواية {يدخلون} بالبناء للمفعول.
{فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ}
أي فنزهه تعالى بكل ذكر يدل على التنزيه حامدًا له جل وعلا زيادة في عبادته والثناء عليه سبحانه لزيادة انعامه سبحانه عليك فالتسبيح التنزيه لا التلفظ بكلمة سبحان الله والباء للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال والحمد مضاف إلى المفعول والمعنى على الجمع بين تسبيحه تعالى وهو تنزيهه سبحانه عما لا يليق به عز وجل من النقائص وتحميده وهو إثبات ما يليق به تعالى من المحامد له لعظم ما أنعم سبحانه به عليه عليه الصلاة والسلام وقيل أي نزهه تعالى عن العجز في تأخير ظهور الفتح واحمده على التأخير وصفه تعالى بأن توقيت الأمور من عنده ليس إلا لحكمة لا يعرفها إلا هو عز وجل وهو كما ترى.
وايد ذلك بما في الصحيحين عن مسروق عن عائشة قالت «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن» تعني هذا مع قوله تعالى: {واستغفره} أي أطلب منه أن يغفر لك.
وكذا بما في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم عن عائشة أيضًا قالت«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر في آخر أمره من قول سبحان الله وبحمده استغفر الله وأتوب إليه وقال أن ربي كان أخبرني أن سأرى علامة في أمتي وأمرني إذا رأيتها أن أسبح بحمده واستغفره» الخ.
وروي ابن جرير من طريق حفص بن عاصم عن الشعبي عن أم سلمة قالت «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يذهب ولا يجيء إلا قال سبحان الله وبحمده قال إني أمرت بها وقرأ السورة» وهو غريب.
وفي المسند عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال: «لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم {إذا جاء نصر الله والفتح} [الفتح: 1] كان يكثر إذا قرأها وركع أن يقول سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي إنك أنت التواب الرحيم ثلاثًا» وجوز أن تكون الباء للاستعانة والحمد مضاف إلى الفاعل أي سبحه بما حمد سبحانه به نفسه.
قال ابن رجب إذ ليس كل تسبيح بمحمود فتسبيح المعتزلة يقتضي تعطيل كثير من الصفات وقد كان بشر المريسي يقول سبحان ربي الأسفل تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.
والظاهر الملابسة وجوز أن يكون التسبيح مجازًا عن التعجب بعلاقة السببية فإن من رأى أمرًا عجيبًا قال سبحان الله أي فتعجب لتيسير الله تعالى ما لم يخطر ببالك وبال أحد من أن يغلب أحد على أهل الحرم وأحمده تعالى على صنعه وهذا التعجب تعجب متأمل شاكر يصح أن يأمر به وليس الأمر بمعنى الخبر بأن هذه القصة من شأنها أن يتعجب منها كما زعم ابن المنير والتعليل بأن الأمر في صيغة التعجب ليس أمرًا بين السقوط نعم هذا الوجه ليس بشيء والأخبار دالة على أن ذلك أمر له صلى الله عليه وسلم بالاستعداد للتوجه إلى ربه تعالى والاستعداد للقائه بعد ما أكمل دينه وأدى ما عليه من البلاغ وأيضًا ما ذكرناه من الآثار آنفًا لا يساعد عليه.
وقيل المراد بالتسبيح الصلاة لاشتمالها عليه ونقله ابن الجوزي عن ابن عباس أي فصل له تعالى حامدًا على نعمه.
وقد روي صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة صلى في بيت أم هانئ ثمان ركعات وزعم بعضهم أنه صلاها داخل الكعبة وليس بالصحيح وأيًا ما كان فهي صلاة الفتح وهي سنة وقد صلاها سعد يوم فتح المدائن وقيل صلاة الضحى وقيل أربع منها للفتح وأربع للضحى وعلى كل ليس فيها دليل على أن المراد بالتسبيح الصلاة والأخبار أيضًا تساعد على خلافه.
واستغفار صلى الله عليه وسلم لأنه كان دائمًا في الترقي فإذا ترقى إلى مرتبة استغفر لما قبلها وقيل مما هو في نظره الشريف خلاف الأولى بمنصبه المنيف وقيل عما كان من سهو ولو قبل النبوة وقيل لتعليم أمته صلى الله عليه وسلم وقيل هو استغفار لأمته عليه الصلاة والسلام أي واستغفره لأمتك وجوز بعضهم كون الخطاب في رأيت عاما وقال هاهنا يجوز حينئذ أن يكون الأمر بالاستغفار لمن سواه عليه الصلاة والسلام وادخاله صلى الله عليه وسلم في الأمر تغليب وهذا خلاف الظاهر جدًا وأنت تعلم أن كل أحد مقصر عن القيام بحقوق الله تعالى كما ينبغى وادائها على الوجه اللائق بجلاله جل جلاله وعظمته سبحانه وإنما يؤديها على قدر ما يعرف والعارف يعرف أن قدر الله عز وجل أعلى وأجل من ذلك فهو يستحى من عمله ويرى أنه مقصر وكلما كان الشخص بالله تعالى أعرف كان له سبحانه أخوف وبرؤية تقصيره أبصر وقد كان كهمس يصلي كل يوم ألف ركعة فإذا صلى أخذ بلحيته ثم يقول لنفسه قومي يا مأوى كل سوء فوالله ما رضيتك لله عز وجل طرفة عين وعن مالك بن دينار لقد هممت أن أوصي إذا مت أن ينطلق بي كما ينطلق بالعبد الآبق إلى سيده فإذا سألني قلت يا رب أني لم أرض لك نفسي طرفة عين فيمكن أن يكون استغفاره عليه الصلاة والسلام لما يعرف من عظيم جلال الله تعالى وعظمته سبحانه فيرى أن عبادته وان كانت أجل من عبادة جميع العابدين دون ما يليق بذلك الجلال وتلك العظمة التي هي وراء ما يخطر بالبال فيستحي ويهرع إلى الاستغفار وقد صح أنه عليه الصلاة والسلام كان يستغفر الله في اليوم والليلة أكثر من سبعين مرة وللاشارة إلى قصور العابد عن الإتيان بما يليق بجلال المعبود وإن بذل المجهود شرع الاستغفار بعد كثير من الطاعات فذكروا إنه يشرع لمصلي المكتوبة أن يستغفر عقبها ثلاثًا وللمتهجد في الاسحار أن يستغفر ما شاء الله تعالى وللحاج أن يستغفر بعد الحج فقد قال تعالى: {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم} [البقرة: 199].
وروي أنه يشرع لختم الوضوء وقالوا يشرع لختم كل مجلس وقد كان صلى الله عليه وسلم يقول: إذا قام من المجلس «سبحانك اللهم وبحمدك استغفرك وأتوب إليك» ففي الأمر بالاستغفار رمز من هذا الوجه على ما قيل إلى ما فهم من النعي والمشهور أن ذلك للدلالة على مشارفة تمام أمر الدعوة وتكامل أمر الدين والكلام وإن كان مشتملًا على التعليق وتقديم التسبيح ثم الحمد على الاستغفار قيل على طريقة النزول من الخالق إلى الخلق كما قيل ما رأيت شيئًا إلا ورأيت الله تعالى قبله لأن جميع الأشياء مرايا لتجيله جل جلالهه وذلك لأن في التسبيح والحمد توجهًا بالذات لجلال الخالق وكماله وفي الاستغفار توجهًا بالذات لحال العبد وتقصيراته ويجوز أن يكون تأخير الاستغفار عنهما لما أشرنا إليه في مشروعية تعقيب العبادة بالاستغفار وقيل في تقديمها عليه تعليم أدب الدعاء وهو أن لا يسأل فجأة من غير تقديم الثناء على المسؤول منه {إِنَّهُ كَانَ تَوبَا} أي منذ خلق المكلفين أي مبالغًا في قول توبتهم فليكن المستغفر التائب متوقعًا للقبول فالجملة في موضع التعليل لما قبلها واختيار توابا على غفارًا مع أنه الذي يستدعيه استغفره ظاهرًا للتنبيه.
كما قال بعض الأجلة على أن الاستغفار إنما ينفع إذا كان مع التوبة وذكر ابن رجب أن الاستغفار المجرد هو التوبة مع طلب المغفرة بالدعاء والمقرون بالتوبة فاستغفر الله تعالى وأتوب إليه سبحانه هو طلب المغفرة بالدعاء فقط.
وقال أيضًا أن المجرد طلب وقاية شر الذنب الماضي بالدعاء والندم عليه ووقاية شر الذنب المتوقع بالعزم على الإقلاع عنه وهذا الذي يمنع الاصرار كما جاء ما أصر من استغفر ولو عاد في اليوم سبعين مرة ولا صغيرة مع الاصرار ولا كبيرة مع الاستغفار والمقرون بالتوبة مختص بالنوع الأول فإن لم يصحبه الندم على الذنب الماضي فهو دعاء محض وإن صحبه ندم فهو توبة انتهى والظاهر أن ذلك الدعاء المحض غير مقبول وفيه من سوء الأدب مع الله تعالى ما فيه.
وقال بعض الأفاضل إن في الآية احتباكًا والأصل واستغفره إنه كان غفارًا وتب إليه إنه كان توابًا وأيد بما قدمناه من حديث الإمام أحمد ومسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها وحمل الزمان الماضي على زمان خلق المكلفين هو ما ارتضاه غير واحد.
وقال الماتريدي في (التأويلات) أي لم يزل توابًا لا أنه سبحانه تواب بأمر اكتسبه وأحدثه على ما يقوله المعتزلة من أنه سبحانه صار توابًا إذ أنشأ الخلق فتابوا فقبل توبتهم فأما قبل ذلك فلم يكن توابًا ورد عليه بأن قبول التوبة من الصفات الإضافية ولا نزاع في حدوثها واختار بعضهم ما ذهب إليه الماتريدي على أن المراد أنه تعالى لم يزل بحيث يقبل التوبة ومآله قدم منشأ قبولها من الصفات اللائقة به جل شأنه وفي ذلك مما يقوي الرجاء به عز وجل ما فيه.
وصح «لو لم تذنبوا لذهب الله تعالى بكم ولجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم».
وفي الاستغفار خير الدنيا والآخرة أخرج الإمام أحمد من حديث عطية عن أبي سعيد مرفوعًا «من قال حين يأوى إلى فراشه استغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفر له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر وإن كانت مثل رمل عالج وإن كانت عدد ورق الشجر».
وأخرج أيضًا من حديث ابن عباس «من أكثر من الاستغفار جعل الله تعالى له من كل هم فرجًا».
وأنا أقول سبحان الله وبحمده استغفر الله تعالى وأتوب إليه واسأله أن يجعل لي من كل هم فرجًا ومن كل ضيق مخرجًا بحرمة كتابه وسيد أحبابه صلى الله تعالى عليه وسلم. اهـ.